الصفحة الرئيسية  أخبار وطنية

أخبار وطنية كيف نقرأ تاريخ الحركة الوطنيّة بعد الثورة؟ بقلم الأستاذ عميرة عليّة الصغيّر (الجزء الأول)

نشر في  14 أفريل 2018  (11:44)

بقلم الأستاذ عميرة عليّة الصغير 

المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر

يطرح هذا العرض مجموعة من التساؤلات المنهجية تخصّ المنتوج التاريخي في تونس الذي موضوعه الحركة الوطنية التونسية و الذي أضحى بصورة خاصة منذ دخلت بلادنا المسار الثوري في ديسمبر2010 و الذي نحن مازلنا في خضمّه، موضوع تساؤلات و حتى مطالبات من مكوّنات عدة للمجتمع المدني تطالب بإعادة قراءة التاريخ الوطني و تصحيح التاريخ و كأنّ كلّ ما كتب الى حدّ الآن تزييفا لتاريخ الكفاح الوطني و في الواقع وككل مبحث في علاقة مع الحاضر كان هذا القسم من تاريخ تونس المعاصر ولا يزال مجالا للرّهانات السّياسيّة والصراعات بما أنّه يمثل القاعدة التي انبنت عليها مشروعيّة النظام القائم بتونس منذ الاستقلال على مستوياته الاجتماعية والسياسية والثقافية وهو كذلك مرجع القوى الأخرى التي هي خارج النّسق حيث تجد فيه مبرّرات تموقعها التاريخي ومشروعيّة معارضتها له ، هذا وإن خفّت منذ 1987 مع نظام بن علي البائد، حدة الاستنجاد بالماضي فانّ هذه الرغبة عادت من جديد وأضحت ملحّات ضاغطة بقوّة بعد الثورة ليبحث كلّ طرف عن مشروعيّة تاريخيّة و امتدادا في الماضي النضالي لتونس ليعزّز جدارة وجوده السياسي ومن ذلك ما نقرأه و ما نسمعه، كلّ يوم تقريبا، حول الصراع اليوسفي البورقيبي أو مكانة الزيتونة والزيتونيين وعلاقاتهم بحركة التحرير الوطني الخ.

ويمكن تصنيف هيستوريغرافيا الحركة  الوطنية التونسية حسب منتجي المادة التاريخية إلى ثلاثة أصناف :

1)  التاريخ الرسمي.

2)  تاريخ المناضلين.

3)  التاريخ الأكاديمي.

ونحاول في هذا العرض التفصيل في كل صنف من الأصناف الثلاثة من خلال نماذج من المادة التاريخية المنتجة ودراسة خلفياتها الإيديولوجية والسياسية ومناهج وضعها.

I – الحركة الوطنية في التاريخ الرّسمي(القريب) .

يجب التّنويه أوّلا أنّه منذ 1987 و مع نظام بن علي وزوال حكم بورقيبة  تراجعت حدة الإحالة على الماضي وخف وزن الضغط الذي كان يمارسه الخطاب السياسي الرسمي المفاخر بأمجاد الحركة  الوطنية لأن النظام الجديد حتى وإن أعلن وفاءه لتاريخ المقاومة  الوطنية فهو يركّز على مشروعية أخرى جديدة (إعلان السابع من نوفمبر، حقوق الإنسان، التنمية المستديمة...) لذا تغيّرت كيفية التعامل مع الماضي وأرخي العنان نسبيّا لاقتحام مسائل كانت من المحرّمات تحت حكم بورقيبة وسمح بحرّيات أوسع للبحث في الماضي الوطني وتمّ أساسا لهذا الغرض بعث المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية سنة 1989 وسنعود لاحقا لإسهامات هذه المؤسسة الجامعية. لكن رغم تلك الإرادة التّصحيحيّة لتاريخ الحركة الوطنية لازال التاريخ الوطني في نسخته القديمة فاعلا لأن  ثلاثين سنة من التعبئة فعلت فعلها ليس فقط في أذهان العامة من الناس بل حتى في إدارك النخب خاصة وأن المادة التاريخية المكتوبة أو الإعلامية التي كانت رائجة في عهد بورقيبة لازالت فاعلة ومستثمرة في الخطاب الإعلامي وحتى المدرسي رغم تراجع الإحالة  الدائمة لشخص الزعيم بورقيبة وإبراز وجوه  وطنية جديدة كانت متروكة في الظل شأن صالح بن يوسف و عبد العزيز الثعالبي أو محمود الماطري. وهذا ما يلاحظ مثلا في صياغة دروس الحركة الوطنية  المعتمدة في الكتب المدرسية للابتدائي أو الثانوي الصادرة بعد 1987 حيث حافظت على المنطق السالف ذاته المحيّد للفعل التّاريخي الشّعبي أو المهمّش لدور المنظمات القومية وخاصة النقابية أو السّاكت عن دور الأحزاب السياسية  الأخرى كالحزب الدستوري القديم مثلا.

ومهما كان الأمر فإن التاريخ في صيغته البورقيبيّة لازال فاعلا والقطيعة معه في مستوى الخطاب الرسمي ليست بديهية ولعل ذلك يعود أساسا للثقافة التاريخية للنخب الحاكمة من ناحية ومن ناحية أخرى يجد مبرّره في دوام مركزية حضور الحزب الدستوري (التجمع منذ 1988) في دواليب الدولة والحياة العامة خاصة وإن النصوص المرجعية  لذاك الخطاب التاريخي لازالت سائرة ولم تدحضها مؤلفات  جامعة للعموم. وهنا نعني أساسا ذاك الكم الهائل من خطب بورقيبة[1]. وسلسلة تاريخ الحركة الوطنية[2]  التي أشرف  عليها أحد  أقطاب  الحزب الدستوري  آنذك السيد  محمد الصياح. ولعل المشاريع  البحثيّة والمؤلفات التي صدرت أخيرا[3] تقوّم ذاك التمشّي الأعرج.

القراءة الرسمية  لتاريخ الحركة الوطنية إذا هي قراءة سياسية  للأحداث التاريخية هدفها أساسا إعطاء المشروعية  المطلقة للحزب الحر الدستوري الجديد (الاشتراكي في ما بعد) في حكم البلاد كنتيجة منطقية لنضال خاضه  لوحده  حيث تختزل  الحركة الوطنية في تاريخ هذا الحزب ويختزل تاريخ هذا الحزب في تاريخ زعيمه الحبيب بورقيبة. لقد سارت هذه الحركة من الوجهة الرّسمية حسب برنامج ضبطت فصوله  وأحكمت غاياته وحدّد إيقاعه بشكل مسبق من مخرج كبير هو الزعيم بورقيبة. فلا مكان في تاريخ  الحركة الوطنية للصدفة ولا للمفاجأة  ولا "لألاعيب التاريخ" ولا تردّد في ضبط الخطط  والاستراتيجيات  ولا غلط في تقييم أو تشخيص موازين القوى أو كشف خفايا وحقيقة السياسة الاستعمارية  فعقل الزعيم كان دائما حاضرا ثاقبا مدركا للواقع ولكل خفاياه مقيّما للأحداث التّقييم السّليم وواضعا للخطط الأنجع ومصحّحا لأخطاء الرفاق ومرشدا للضّالين منهم.

هذه القراءة لا تدرك الحركة الوطنية على أنها فعل مقاوم متعدد القوى بل  تختزلها في جهد الحزب الدستوري الجديد لوحده فالقوى الوطنية الأخرى منظمة شأن الحزب الدستوري القديم مثلا أو مستقلة هي قوى ثانوية أو كانت معرقلة  للمسيرة النضالية وحتى التحركات الجماهرية  تذكر عند الحوادث  الكبرى عندما يوقف الزعماء كصورة من المشهد لا كأفعال حاسمة في دفع حركة التاريخ. وتختزل هذه الرؤية الرسمية للحركة الوطنية  في أشكال النضال السياسي مهملة الأشكال الأخرى التي لا تقل أهمية وربما حسما شأن المقاومة المسلّحة والنّضال النقابي وتحركات الجمعيّات الشبابية (الكشّافة مثلا) والثقافية (الجمعيات  المسرحية وغيرها) والصحافة أو النشاط الوطني خارج تونس.

وتتكرّس هذه الرّؤية الاختزالية لتاريخ الحركة الوطنية وابتسارها عند فعل الحزب البورقيبي وسيرة زعيمه في ضبط رزنامة الأعياد الرّسمية التي كانت معتمدة حتى 1987[4] وضابطة لإيقاع الحياة العامة. كما تطبع هذه النّظرة الغازية للتاريخ الفضاء العمومي بتمييز أحداث تاريخ الحزب الدّستوري الجديد أو الحوادث التي كان فيها فاعلا حيث تسيطر تلك الوقائع وأسماء قيادات الحزب على أسماء الأنهج والشوارع والساحات الهامة في كامل أنحاء البلاد مع تربع الحبيب بورقيبة دائما على أهم جادّة في أية مدينة أو بلدة من تونس .

ومن شوائب هذه الرؤية التاريخية كثرة مناطق الظل  في عرضها لوقائع الكفاح الوطني حيث تعددت المسائل المسكوت عنها كالتعرض لشخص بورقيبة  بالمديح الدائم دون التطرّق لحقيقة شخصيته وطبيعة إدارته للأمور كاستبداده بالرأي واعتداده بشخصه إلى درجة عدم تحمل الاختلاف واتخاذه عدة قرارات بصورة فرديّة دون رجوع إلى دواليب الحزب أو استشارة رفاقه ومن المسكوت عنه في الرؤية الرسمية كذلك قضايا أخرى كطبيعة  المباحثات والمفاهمات السّريّة التي تمت أثناء مفاوضات الاستقلال الداخلي أو قضية المتعاونين مع الاستعمار والصّبغة التّوافقيّة التي حدّدت مصيرهم بين الطّرفين الوطني والفرنسي كذلك قضية الخلاف في الصفّ الوطني وحقيقة حسم ذلك الخلاف وتصفية المعارضة اليوسفية أو عدم التتبع الجدّي لقضية اغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد والعمل على كشف مغتاليه إن كانوا من الفرنسيين أو التونسيين.

هذا التّقصير المنهجي والمعرفي وحتى الأخلاقي في الرؤية الرّسمية لتاريخ الحركة الوطنية انبرت عديد الأقلام والأصوات من المناضلين القدامى تدّعي تقويمه. فإلى أيّ مدى نجحت في رهانها ؟

II- الحركة الوطنية في منظور المناضلين

يمكن أن نصنّف هذا النوع من التدخل في الإنتاج التاريخي المتعلق بالحركة الوطنية إلى صنفين: مقاربة المناضل القيادي ومقاربة المناضل القاعدي علاوة على الشّكل الذي وردت فيه إن كان كتابة أو كلاما مسجّلا. وهذا الجنس في إنتاج المعرفة التاريخية رغم نقائصه يبقى في تقديرنا هاما وضروريا ولا محيد عنه في إثراء الرصيد المصدري لكتابة تصبو أن تكون علميّة للتاريخ وذلك لما يتضمنه  هذا النوع من تفاصيل تاريخية ومعطيات  موضوعية وحتى ذاتية لا نجدها في غيرها من المصادر الأخرى الأرشيفية وسواها ذات "السّمة الباردة" وكذلك  لثراء ما يمكن أن تقدمه حافظة المناضل من حقائق تجهلها الوثائق الرسمية أو تتجاهلها كالحالة النفسية والمعنوية للمتدخّلين في الفعل التاريخي من غضب ورضى وارتياح وخيبة وإحباط وخوف وإقدام وتحفّز للمقاومة أو تردّد وركون للإستسلام وهذه الجوانب ذات الصّلة بالوعي الفردي أو الجمعي كثيرا ما تهمل عند كتابة التاريخ رغم أهميتها في الكشف عن العوامل المحددة للفعل التاريخي.

هذا الإسهام لهذا الجنس من التأريخ لا يجب بداهة أن يحجب عن المؤرخ الحصيف مواطن الضّعف فيه لأنّ التاريخ الصّادر عن المناضل حتى وإن ادّعى الموضوعية يبقى رهين ذاتيّة منتجه الذي حتى وإن اجتهد وأحسن النية في استرجاع الوقائع التاريخية كما جدّت فهو يبقى رهين مضاء ووفاء ذاكرته والذاكرة بطبيعتها انتقائية ثم أن إعادة تركيب تلك الحقائق التاريخية هي أيضا رهينة درجة إدراك المؤلف للأحداث التي شارك في صنعها وإلمامه بالصورة الشاملة ليس فقط للحدث الصغير الذي تحرك ضمنه بل بالصورة العامة بكل تشعّباتها المحلية والقومية والعالمية. علاوة على العوائق الإبستمولوجية الأخرى في إنتاج معرفة موضوعية للماضي خاصة إذا كان تدخل المناضل في كتابة التاريخ غايته إعادة الإعتبار للذّات والثأر من خطاب تاريخي أقصاه أو همّشه أو لتصفية حساب مع قوى سياسية اضطهدته أو غبطته  حقه في الاعتراف بدور فعلي أو وهمي في مقاومة الاستعمار وحرمته من ثمرة نضاله في النفاذ للسلطة أو في تحقيق مكاسب[5].

على كل منذ حكم بورقيبة وخاصة بعد ازاحته أقدم عديد المناضلين على نشر كتب مذكّرات أو سير ذاتية وأحيانا محاورات أو مؤلفات تدّعي قول الحقيقة التاريخية وتصحيحها حتى وإن لم تصدر كلها عن أشخاص كانوا في علاقة "خصام" مع النظام السابق ودون الإتيان عليها كلها نذكر هنا أهمها. حيث نشرت سنة 1960 دار بوسلامة مذكرات القيادي  الدستوري الجديد الطاهر صفر[6] وفي الجزائر نشر القيادي الدستوري الآخر أحمد توفيق المدني مذكراته[7] وظهرت كذلك بتونس مذكرات القادة الدستوريين الجدد الدكتور الماطري[8] وسليمان بن سليمان[9] ورشيد ادريس[10] وأكبرهم الحبيب بورقيبة[11] ومن الدستور القديم الشاذلي الخلادي (عبد الحق)[12] ومن الصّف اليوسفي نشر الطاهر عبد الله "الحركة الوطنية التونسية. رؤية شعبية قومية جديدة"[13] ورئيس الاتحاد العام للفلاحة التونسية الحبيب المولهي "الوطن والصّمود"[14] وسجل حسين التريكي العضد الأيمن لصالح بن يوسف مذكراته بالمعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية[15] وصدرت في جوان 2003 محاورات القيادي الشيوعي محمد النافع[16] بعدما نشر سنة 2000 "كان هناك... شاب متمرد"[17] وفي الجناح النقابي للحركة الوطنية صدرت مذكّرات مؤسس جامعة عموم العملة التونسية الثانية بلقاسم القناوي[18] والقياديين المؤسسين في الاتحاد العام التونسي للشغل الحبيب عاشور[19] والنّوري بودالي[20] كذلك أصدر المناضل الدستوري والقيادي الكشفي حامد الزغل كتابا في غاية الأهمية وهو "جيل الثورة. ذكريات مناضل"[21] وأخيرا وليس آخرا نشر المناضل الدستوري ، عضو المجلس الملّي علي المعاوي "ذكريات وخواطر" (2007) [22] وهو عمل ثري وجاد ومن المناضلين المستقلين القيادي الكشفي أيضا وأحد وجوه النخبة الوطنية المغاربية بالشرق العربي عزالدين عزّوز الذي صدر له "التاريخ لا يرحم"(بالفرنسية) سنة 1988[23]. وفي صف قيادي المقاومة المسلّحة حتى وإن لم تكتب مذكرات أو سير ذاتية فقد تم تسجيل حوارات مطوّلة مع العديد منهم ولعل أهمهم الطاهر لسود الذي كان له دور أساسي في حركة "الفلاقة" في طورها الأول (1952-1954) وفي طورها الثاني (1955-1956) في التحام مع الثورة الجزائرية[24].

إضافة للملاحظات  العامة التي سبق ذكرها في ما يخص المذكرات  والسير الذاتية ومساهمتها في بناء الحقيقة التاريخية نلاحظ هنا أن المادة المتوفرة الصادرة عن المناضلين القياديين هي نصوص مكتوبة ما بعد الأحداث التي تسردها وليست يوميّات لذا أتت مستجيبة لطبيعة النص" الموضّب ببرودة " من تخطيط وانسجام في الأفكار وتحديد للغايات وتوضيب للأحداث وتعليلها حسب إدراك المؤلف لتلك  الأحداث لا زمن وقوعها بل عند كتابة النص وهي عامة تتفاوت في درجة الالتزام بالموضوعية التاريخية من مؤلف لآخر وتتفاوت مصداقيّتها حسب درجة وعي الذات من مناضل إلى آخر.

أما في ما يخصّ مساهمة المناضلين القاعديين فإنه يتوفّر حاليا للمؤرخ في تونس رصيد هام من الشّهادات تهمّ خاصّة المرحلة الأخيرة من مقاومة الاستعمار جمع أغلبها المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية الذي في رصيده حاليّا أكثر من 350 تسجيلا[25] كذلك  بمؤسسة   التميمي

للبحث العلمي [26]أو تساجيل ولقاءات أجراها باحثون في رسائلهم اليمكّننا دون الكمّ المعتبر من الشهادات التي اطّلعنا على الكثير منها يمكّننا  دون جزم من بلورة فكرة عن إدراك الحركة الوطنية لدى هؤلاء الفاعلين الميدانيين للكفاح الوطني.

نذكّر أوّلا إننا إزاء شهود أغلبهم من الأميّين خاصّة من بين رجال المقاومة المسلحة والقلة العارفة بحروف الهجاء لم يكن لها تعامل مع النصوص المكتوبة وميزة شهاداتهم أنها أتت في روح عفويّة وتلقائيّة رغم حضور الأسئلة الموجّهة من المستجوب. ودون أن نعود إلى شائنات السّير الذاتية إن كانت مكتوبة أو شفاهية من رغبة في فرض الذّات وإعادة الإعتبار وأحيانا السّقوط في النّرجسية المفرطة وادّعاء البطولة فان جل الشهادات –التي اطلعنا عليها- يغلب عليها الصدق والتواضع. أمّا في مستوى تمثل هذه الشهادات للحركة الوطنية فهي في الغالب ينقصها الإدراك لطابعها الشمولي وترابط مختلف روافدها وفاعليها كما يغيب عند جل المسجّل لهم الوعي الكامل أو الدقيق بتفاصيل هذه الحركة وتعرّجاتها إن كان من حيث الأحداث أو البرامج والخطط إلا من ندر من العناصر الأكثر تسيّسا لأنّ جلّ المقاومين كان انتماؤهم للوطن قبل الانتماء للأحزاب الوطنيّة أو" للمنظمات القومية " وانخراطهم في المقاومة كان بدافع الحمية الوطنية. وتشوب هذه الشهادات كذلك تشوّهات في استعادة الماضي نتيجة تأثير الحاضر وخاصة فعل الخطاب الإعلامي والدعائي الحزبي (الدستوري أساسا) طيلة حكم بورقيبة لذا بقي تصور المناضلين للحركة الوطنية سجين التّصور العام الذي رسمته لها أجهزة السلطة مع تدخّل فقط في تصحيح الجزئيات وإضافة صياغة جديدة للتاريخ الصغير أي تاريخ المساهمة الخاصة للمناضل في المقاومة وخاصة التدخل الفعلي في مقارعة الاستعمار شأن رفع السلاح في إطار حركة "الفلاّقة" أو المشاركة في عمليات التخريب والتظاهر والإضرابات والإغتيالات  والإعتصامات التي شملت جلّ المدن التونسية خاصة  في الخمسينات... وتبرز شهادات المقاومين هؤلاء رغبة ملحة في الاعتراف بدورهم والإقرار بمساهمتهم الفعلية في تحرير البلاد. لذا يمكن اعتبار هذا النوع من التدخل  في صياغة تاريخ الحركة الوطنية بالتاريخ الوجودي أو الثّـأري.

فما هي مكانة المؤرّخ الأكاديمي بين حقيقة التاريخ التي يعتقد الحاكم امتلاكها ويتصوّر المناضل تصحيحها ؟

يتبع الجزء الثاني

[1] - طيلة حياته النشطة كان بورقيبة يخطب ويقرن في خطاباته بين الماضي والحاضر لذا اعتمدت هذه الخطب ليس كمرجع بل التاريخ ذاته. وقد  نشرت تلك الخطابات في سلسلة تجاوزت  ثلاثين جزءا تغطي الفترة 1955-1974 من طرف وزارة الإعلام اضافة لعدة مؤلفات أخرى أهمها "حياتي، أرائي، جهادي". انظر في رؤية بورقيبة لتاريخ الكفاح الوطني مقال الزميل فتحي ليسير : " تأملات أولية في قراءة بورقيبة لتاريخ الحركة الوطنية " بمجلة روافد ، عدد 11 / 2006 ، ص ص .69 – 103 .

[2] - صدرت سلسلة  تاريخ  الحركة الوطنية التونسية في 20 جزءا عن دار العمل بين سنتي 1969 و 1986 لتغطي الفترة الممتدة بين 1929 إلى 1964 وكان جزؤها الأول " 1933- 1929"Articles de Presse  والأخير 

"La République délivrée. 2- De l’occupation étrangère. 1959-1964".

 

 - نعني هنا خاصة الجزء الثالث من سلسلة " تونس عبر التاريخ" بعنوان : "الحركة الوطنية ودولة الاستقلال " من تأليف ثلة من [3] الجامعيين والصادر عن مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية بتونس ، 2007 وهو رغم الجهد التجديدي بقيت مقاربته  في تقديرنا حبيسة التصور العام المألوف للحركة الوطنية أما الكتاب الآخر فهو بعنوان :" موجز تاريخ الحركة الوطنية التونسية

( 1881 – 1964) " من انجاز مجموعة من باحثي المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية و الصادر عن هذه المؤسسة سنة 2008 .

[4] - منها : 18 جانفي : عيد الثورة. بينما المصادمات الدامية بدأت مع الإستعمار سنة 1952 منذ 14 جانفي. و1 جوان : عيد النصر  (تاريخ عودة بورقيبة من المنفى في 1955) بينما امضاء اتفاقيات الاستقلال الداخلي تمّ في 3 جوان. و 3 أوت : عيد ميلاد الرئيس الذي اتخذ في السّنوات الأخيرة من حكم بورقيبة بعدا بذخياّ وزمنا يطول أكثر من شهر وغني عن القول في ذلك من شخصنة للتاريخ.

[5] -  انظر كأنموذج على هذا الانحراف لدى المناضلين المقالين النقديين التاليين:

-          عدنان المنصر، "قراءة في بعض النماذج من المذكرات السياسية التونسية المعاصرة"، روافد، عدد 1 1995، ص 29-38.

-          عبد الجليل بوقرة "كيف كتب السياسيون التاريخ؟ قراءة في بعض ما كتب عن بوقيبة وابن يوسف"، المجلة التاريخية المغاربية، العددان 93-94، ماي 1999، ص. 13-26.

[6] - Tahar SFAR, Journal d’un exilé,  Zarzis 1935, Tunis, Editions A. Bouslama, 1960.

[7] -  أحمد توفيق المدني، حياة كفاح (مذكرات)، الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزء الأول 1976، الجزء الثاني 1977، الجزء الثالث 1982.

[8] - Mahmoud ELMATRI, Itinéraire d’un militant (1926-1942), Tunis, Cérès Productions, 1992.

[9] - Sliman BEN SLIMAN, Souvenirs politiques, Tunis, Cérès Productions , 1989.

[10] - الرشيد ادريس، من باب سويقة إلى منهاتن، تونس، ابن  عبد الله، 1980.

- الرشيد ادريس، من جاكرته إلى قرطاج، تونس، الشركة التونسية للتوزيع، 1985.

- الرشيد ادريس ، في طريق الجمهورية ، مذكرات ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت ، 2001.

[11] - Habib BOURGUIBA, Ma vie, mon œuvre, Paris, Plon, 5 volumes (1929-1933 ; 1934-1938 ; 1938-1943 ; 1944-1951 ; 1952-1956), 1985-1986.

[12] - ABDELAHAC (Pseudonyme de Chedli KALLADI), Au temps de la colonisation, Tome 1 : Des hommes et leurs comportements, Tunis, M.T.E., ; 1989.

[13] -  الطاهر  عبد الله، الحركة الوطنية التونسية، رؤية قومية جديدة، سوسة، دار المعارف للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، 1990.

14] -- الحبيب المولهي، الوطن والصمود، بيروت، دار الغرب الاسلامي، 1991.

[15] - يستغرق هذا التسجيل أزيد من 13 ساعة محفوظ  بمعهد  الحركة الوطنية (منوبة، تونس) عدد 44.

[16] -  صدرت بالمجلة التاريخية المغاربية عدد 111، جوان 2003 في 38 صفحة، ص ص: 561-598.

[17]- Mohamed ENNAFAA, Il était une fois… un jeune révolté, Publisud Maghreb Diffusion, 2000.

[18] - بلقاسم  القناوي، مذكرات نقابي وطني، تحقيق وتعليق فريد بن سليمان، تونس، منشورات معهد الحركة الوطنية، 1998.

[19] - Habib ACHOUR, Ma vie politique et syndicale, Tome1 : Enthousiasme et déceptions (1944-1981), Tunis, Editions Alif, 1989.

[20] - Nouri BOUDALI, L’Union Générale Tunisienne de Travail. Souvenirs et récits, Tunis, Imp.

Al Asria, 1998.

- Etre et durer, Tunis, Im. Al Asria, 1995.

[21] -  صدر هذا الكتاب بتونس عن دار سيراس للنشر سنة 2001. ويمكن الاطلاع على تقديم نقدي لهذا المؤلف بمجلة روافد عدد 7/2002 بقلم عميرة علية الصغير.

[22]علي المعاوي ، ذكريات وخواطر ، نشر المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية، 2007 ، 799 صفحة .  

 

[23]- Ezzedine  AZZOUZ, L’Histoire ne pardonne pas, Tunisie : 1938-1969, Paris –Tunis, L’Harmattan- Dar Ashraf Editions, 1988.

24] - شهادة  الطاهر لسود مسجلة بالمعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية تحت رقم 43 مع الملاحظ أن الأستاذ عبد الحميد العلاني نشر شهادات 101 مقاوم في كتاب عنوانه : لم يناموا عل الذلّ ، تونس، شركة فنون الرسم والنشر والصحافة ، 2006 .

[25] - هذه التساجيل بالصوت وبعضها بالصورة والصوت محفوظة بالمعهد  ومفتوحة للباحثين.

[26] دأبت هذه  المؤسسة في إطار "أيام الذاكرة الوطنية" في السنوات الأخيرة على تسجيل عديد الحوارات مع مناضلين وسياسيين أمثال [1] السادة أحمد بن صالح ومحمد النافع ومصطفى الفيلالي ومحمد كريم وأحمد الزمني وحسيب بن عمار ومحمد صالح البراطلي وعلي بن سالم والساسي بويحي وغيرهم.